ثورة 25 يناير 2012.......تم التوثيق (قصة قصيرة)

إستفاق يس على صوت وصورة المساعدة الإلكترونية ثلاثية الأبعاد الخاصة به وهي تبلغه بأن درجة تركيزه قد بلغت 20% وهو أدنى مستوى خلال أسبوع وإن جسمة في حاجة شديدة إلى فترة راحة تتراوح بين 4 إلى 5 ساعات وفترة نوم من 6 الى 8 ساعات
فرك يس عينية وأجاب بصوت منخفض ومرهق 
"اوكي يا سلمى رجاء إعادة جدولة المهام المطلوبة في ظل النتائج التي تم التوصل إليها"

"جاري تحميل النتائج وإعادة الجدولة" 
ثم نظر يس في ساعة يده القديمة ذات العقارب فوجدها تشير إلى الثانية والربع صباحاً
خرج يس من معمله في تباطؤ وسار ذلك الممر الطويل الذي يفصل بين مكتبه وبين الردهة الرئيسية للمكان 
 وحولة في جنبات الردهة تناثرت مجموعة كبيرة من الروبوت التي يتم الإعتماد عليها في أعمال النظافة والصيانة ومعظم الأعمال اليدوية  بالمكان
كلما سار يس في ذلك الممر تذكر أول مرة دخل فيها هذا المكان من 3 سنوات
فقد تم إنشاء المركز القومي للأثار اإلكترنية والتوثيق في مطلع القرن الرابع والعشرون
فبعد ظهور الإنترنت في مصر في نهايات القرن العشرين (1995) وإنتشاره الواسع خصوصاً بعد فترة الربيع العربي (المنطقة العربية 2011-2015)

اصبح هناك الملايين من المواقع والمدونات والفيديوهات والصور 
ومع تقدم التكنولوجيا بدأ البشر يتخلون عن الورق والأقلام والكتب رويداً رويداً مما زاد من تفاقم المشكلة فحجم المعلومات أصبح أكبر من إستيعاب الشبكة العنكبوتية وأصبح لابد من التخلص من البيانات والمواقع القديمة الغير مستغلة 
وهنا ظهرت مشكلة اخرى 
فتلك البيانات التي سيتم التخلص منها إنما هي تاريخ شعوب وأجيال كاملة
فكانت الفكرة التي تقدمت بها مصر في منتصف القرن الثاني والعشرين للمؤتمر الدولي الذي دعت له مصر لينعقد في مدينة  المنصورة (عاصمة البرمجيات في مصر عام 2150) وهي فكرة توثيق التاريخ الإلكتروني
على أن يتم هذا عن طريق مراكز بحثية منتشرة في انحاء العالم تقوم بمراجعة البيانات والمواد المرفوعة على شبكة الإنترنت من خلال خبراء في التاريخ وتوثيق تلك البيانات وربطها بالأحداث التاريخية في كتب وثائقية إلكترونية ورفعها مرة أخرى على شبكة الإنترنت بعد الإحتفاظ بنسخ منها في تلك المراكز البحثية الدولية
وقد أستحق اصحاب هذه الفكرة وهم مجموعة طلاب بالسنة النهائية بكلية الأثار جامعة القاهرة عن جدارة جائزة نوبل للعلوم 
فبفكرتهم هذه تم إنقاذ مليارات من (التيرابايت) التي تحوي تاريخ شعوب واجيال كاملة كذلك تم توثيق فترات زمنية هامه وفاصلة في حياة الشعوب
ناهيك عن كم الأبحاث والأفكار العلمية التي كانت على وشك الإندثار والتي لم ترى النور إلا بعد أن تم إنشاء تلك المراكز البحثية
وقد إستطاع يس أن يحصل على وظيفة خبير مخطوطات إلكترونية بعد تقديمة بحث رائع يقارن فيه بين الإعتماد على الحضارة المصرية القديمة في عصر الفراعنة والإعتماد على المخطوطات الإلكترونية في تكوين تاريخ ونهضة مصر قديماً وحديثاً
وما أن بدأ عمله بالمركز حتى بدأ في دراسته الجديدة والتي قرر أن يركز فيها على فترة الثورة الشعبية المصرية الثانية والتي بدأت في أوائل القرن الحادي والعشرون وبالتحديد في عام 2011 وكان إختيارة لهذه الفترة ليس فقط لأهميتها التاريخية ولكن لما شاب هذه الفترة من حالة من الكذب والتدليس الحكومي والإعلامي لمحاولة إنقلاب النظام على الثورة خصوصاً في ظل تدني المستوى الثقافي في مصر بشكل عام في ذلك التوقيت
"إنت لسه هنا؟" صاح ماجد متعجباً وهو يرى يس يدخل إلى مكتبه وعلامات التعب والإرهاق تبدو واضحه في قسمات وجهه
إرتمى يس على كرسي المساج الوثير في مكتب ماجد مجيباً بصوت منخفض "أه"

"وصلت لحاجه؟"
"وصلت أه بس لسه مخلصتش....عندك حاجة تتشرب؟"
"إنت شكلك مش مرهق بس إنت شكلك مكتئب!!!" قالها ماجد وهو يداعب سطح مكتبة الذي ما هو إلا كمبيوتر لوحي كبير وما إن إنتهى حتى بدا الربوت الخاص بمعاونته بتجهيز فنجان من القهوة ل يس
"بصراحه اه بدأ يجيلي إكتئاب"
"وليه؟ إنت مش بتقول إنك بدأت توصل لنتائج كويسة"
"ده حقيقي بس النتائج دي هي اللي عاملالي إكتئاب"
"إزاي؟"
"بص كده الحاجات اللي توصلت ليها"
قام يس وإتجه إلى مكتب ماجد بعد ان إلتقط فنجان القهوة من الروبوت أو عم حنفي كما يحب أن يلقبه ماجد  ثم بدأ في تحريك أصابعه على سطح المكتب فبدأت تظهر على الحائط المقابل للمكتب بعض الصور والأوراق المكتوبة مذيلة ببعض التواريخ والتعليقات 
"أنا بقالي حوالي شهرين بجمع المعلومات والصور الخاصة بفترة الثورة لدرجة إني بدأت أعيش الأحداث تقريباً يوم بيوم"
أومأ ماجد برأسه وهو يتابع حديث يس ناظراً لما يعرضه يس من وثائق
استطرد يس بعد أن إرتشف رشفة من فجان القهوة في يده 

"اللي انت شايفه ده صور من موقع تواصل إجتماعي ظهر في أوائل القرن الحادي والعشرين كان إسمه فيس بوك عارفه طبعاً"

"أه طبعا ده اللي كانوا الشباب بيتواصلوا من خلاله في بداية الثورة أعتقد مش كده؟"
"بالظبط هو ده.....  دي لقطات لبعض الجروبات اللي عملها الشباب اللي معظمهم إشتركوا في الثورة وكان على رأسها جروب إسمه كلنا خالد سعيد"
"أه ده الشاب اللي مات نتيجة تعذيب وقمع الشرطة في الفترة دي"
"بالضبط كده"
"طيب كويس قوي فين المشكلة بقى"
بدأت تظهر على الحائط بعض الصور لشباب يقومون بتنظيف الشوارع ويحملون أعلام مصر وتبدو وجوههم ضاحكة ومستبشرة
"بص ...... نظرة واحده لوجوه الشباب يمكنك تخيل الحالة النفسية والروح المعنوية العالية لهؤلاء الشباب بعد الثورة"
"تمام"
"بص  بقى الصور دي"
"إيه ده ... دول قبل الثورة برضه؟؟"
رد يس مبتسماً إبتسامة سخرية حزينه
"للأسف لأ الصور دي من بعد الثورة"
كان ما يعرضه يس مشاهد مؤسفة لشباب وفتيات يسحلون ويضربون ويصرخون
وبعض المشاهد لحالة من الفوضى ومع كل مشهد كان يظهر التعليق والفترة الزمنية
إعتقال لناشطين سياسيين وشباب معتصمين بالميدان فبراير 2011
أحداث المتحف المصري ...مارس 2011
أحداث كشف العذرية ....إبريل 2011
احداث السفارة الإسرائيلية.... مايو 2011
أحداث العباسية ......يوليو 2011
أحداث ماسبيرو.....أكتوبر 2011
أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء ......نوفمبر-ديسمبر 2011
أحداث إستاد بورسعيد ........ فبراير 2011


صاح ماجد "مذهولاً يا إلهي....دي حرب إبادة"
أومأ يس برأسه موافقاً وقال "ليست إبادة للثوار فقط يا صديقي لقد أبادوهم نفسياً...... بص دي بعض التعليقات اللي جمعتها من تعليقات الشباب في ذلك الوقت بإختلاف تطورات الأحداث


وبدأ يس في عرض صور توضح تعليقات لشباب من على مواقع التواصل الإجتماعي المختلفة


"من النهارده البلد بلدنا....أنا مش هسمح لحد إنه يغلط في بلدي تاني"
"أنا مش حاسس إن مصر رجعتلي لأ أنا حاسس إن روحي ردت فيا من أول وجديد"
"أنا فخور بكل حاجة في مصر .....حتى نسمة الهوا اللي بنتنفسها في البلد دي......إزاي مكناش حاسين ببلدنا كده"
"حاسس غني عاوز أحضن كل واحد ماشي في الشارع وأقول له إرفع راسك فوق إنت مصري"
"مش مهم هتقول نعم أو لأ على التعديلات الدستورية المهم تشارك رأيك هيفرق .....المجد للشهداء"
"يا شباب نعم ليست نعم للدين ولا ليست حرام .....إزاي بيتكلموا كده أنا مش فاهم"
"كفاية كده أنا هقول نعم للإستقرار"
"اللي بيقول نعم ده بيقول نعم على إيه؟؟؟!!! شوية مغفلين صحيح"
"الجيش ضرب نار في الميدان؟؟؟؟؟ مستحيل يا جماعه أكيد في حاجه غلط....حد شاف بعنيه؟؟!!!الجيش والشعب إيد واحده"
"بيقولوا في ضباط نزلوا الميدان باليونيفورم"
"كشف عذرية ؟؟!!! مستحيل دول يكونوا ضباط مصريين"
"أين محاكمة مبارك ورمز الفساد الباشا قاعد في شرم"
"يسقط يسقط حكم العسكر"

"لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين"
"يسقط يسقط حكم العسكر"
"كاذبون"
.........
"يااااااه ..... ده الواحد يحمد ربنا على اللي إحنا فيه دلوقتي" قالها ماجد في ذهول
ثم إستطرد
"لكن إنت زعلان ليه دلوقتي؟ إنت وأنا عارفين كويس إن لولا اللي حصل ده ولولا إن النظام كشف عن وجهه القبيح لما وصلنا لما نحن فيه الأن ولولا الحراك الثوري الذي إستمر حتى بعد محاولات النظام في مصر وقتها إجهاض الثورة الأولى" صمت ماجد قليلاً متابعاً تأثير كلامه على يس الذي بدا مهموماً وهو يتابع باقي ما عثر عليه من صور وتعليقات وفيديوهات
ثم تابع كلامه قائلاً "دول كانوا الشرارة يا يس ....دول كانوا الشرارة لأول ثورة شعبية حقيقية في مصر ....دول اللي غيروا مفاهيم عاشت مع المصريين لسنين.....مفاهيم صنعوها بأيديهم ثم عبدوها  دول أباءنا واجدادنا اللي للولا اللي عملوه ولولا تربيتهم لجيل تاني على المبادئ الثورية لما كنا نحن هنا
أنظر حولك يا صديقي
بص مصر بقت عاملة إزاي ومش مصر بس مصر وكل دول الربيع العربي
المراكز  البحثية والعلمية في كل مكان
الجوائز العلمية تنهال على الشباب المصري
المدن المصرية  أصبحت الأجمل على مستوى العالم
مكانتنا الإستراتيجية عادت كما كانت بل وأقوى 
إتفاقات الشراكة والتحالفات تكاد تعقد بشكل يومي
انت نفسك يا يس نتاج لهذه الثورة"

نظر له يس وإبتسم إيتسامة خفيفة شاكراً ثم إرتمى على الكرسي الوثير مرة أخرى
"إستغراقي بين صورهم وتعليقاتهم والفيديوهات اللي شفتها خلاني أحس بمشاعرهم
أصعب حاجة في الدنيا إنك تغتال إنسان في أحلامه والأسوأ إن الأحلام دي تكون أحلام شاب
ماذ كان يريد الحكام بما كانوا يفعلونه بهؤلاء الشباب؟؟!!!
وماذا كانوا يتوقعون بعدها؟؟!!
مصر كان 40% من شعبها شباب في الوقت ده
تخيل لما تهمش وتخون 40% من الشعب"

رد ماجد سريعاً ولا حاجة ال 40% دول هييأسوا ويهاجروا أو يسكتوا وتحكم أنت قبضتك على البلد وهو ده اللي كانوا عاوزينه 
بس هما معملوش زيك كده بقى هما كملوا 
فضلوا يشتغلوا
كل فرد فيهم كان عبارة عن شعلة نور لمن حوله 
و 25 يناير جه تاني مره واتنين وتلاته وعشره وحققنا لهم كل اللي كانوا بيتمنوه
تخيل لو كانوا يأسوا وكل واحد قعد في بيتهم زيك كده ؟؟!! كنا ضعنا"


"أنا معاك هما ميئسوش" 
ثم تهدج صوته بالبكاء وهو يكمل "بس الناس دي عاشت وماتت من غير ما يشوفوا نتيجة تعبهم ده كان إيه
إزاي الإنسان يقدر يستحمل إنه يلقى كل الكم ده من الإهانه والإتهامات والإحباط في وطنه ويقدر يستمر؟؟؟؟ 
مقالاتهم وكتاباتهم تقطع القلب وهما شايفين بلدهم بتضيع قدام عنيهم
بلدهم كانت بتتسرق منهم وهما متكتفين يا ماجد" 
إنخرط يس في موجة بكاء شديدة فتوجه له ماجد مهدئاً ومداعباً

"إيه يا عم إنت إندمجت في عالمهم ولا إيه ؟؟!!"
ثم ناولة كوباً من الماء وجلس أمامه على الأرض وأستطرد
"بص يا يس مينفعش يكون تفكيرهم في الوقت ده بطريقتك دي وإلا كانوا فعلاً مش هيكملوا 
التاريخ ده مش سنه ولا اتنين ده عشرات ومئات السنين 
والإنسان اللي بيحمل قضية أو رسالة مبيبقاش مستني يشوف نتيجتها 
هو بيبقى همه القضية نفسها 
حالات قليلة جداً هي اللي بتشوف نتيجة رسالتها ويمكن مش بيشوفوا النتيجة كمان لن مجرد بوادر تقدم
ادينا أنا وأنت أهو قاعدين شوف بعد كام سنة بنتكلم عنهم وبنبحث في تاريخهم 
كل حركة وكل سكنه عملها أباءنا واجدادنا التاريخ بيكتبها وبيحكم عليها بعد فترة 
يمجد أبطالها ....ويلعن جبناءها
وفي ناس بقى مبتشاركش في التاريخ ده أو بتشارك شوية وتيأس
دول التاريخ بينساهم ومبيذكرهمش حتى بكلمة"

 أجاب يس بصوت خفيض وهو يقاوم دموعه "حاسس إني نفسي أركب الة زمن وأرجع لهم اقلهم كملوا أبوس إيديكوا كملوا متيأسوش والله تعبكم جه بفايده والله لولاكم ما كانت لمصر قومة من غير تعبكم .....كملوا عشانا"
رد ماجد "عشانهم كمان يا يس....فاكر الجملة اللي لاقينها في كتاب الفيلسوف اللي كان في الوقت ده اللي كان إسمه الدكتور مصطفى محمود إنت نفسك كنت معجب بيها جداً (قيمة الإنسان هي ما يضيفه منذ ميلاده وحتى مماته) "


"لولا ما فعله الشباب المصري في هذا العصر لما كان لهم الأن قيمة"


إبتسم يس وهو يقوم متثاقلاً نحو الباب وقال قبل أن يغلق الباب خلفه 
"ولا لنا"


سار يس في نفس الممر مرة أخرى متجهاً نحو معمله وقام بفتح الصور والوثائق مرة اخرى حتى وصل إلى موقع إحدى الجروبات
كان هناك تعليقاً مكتوباً على الجروب يبدو أنه أخر تعليق كتبه أصحاب الجروب على صفحته الرئيسية وكان التعليق يقول
"خلاص مفيش فايده ...البلد ضاعت وإحنا يئسنا"


ضغط يس إضافة تعليق وكتب وكأنما يخاطبهم "أرجوكم كملوا ...إكتبوا تاريخكم وتاريخنا ....لا تيأسوا فتضيعونا"
ثم خاطب مساعدته الإلكترونية قائلاً "ثورة 25 يناير 2012 ....تمت المراجعه والتوثيق"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق