يوميات المتظاهر الصغير الجزء الثامن (إبتسم فأنت في حضرة شهيد)ء



القاهرة في 16/07/2011
اتسعت خطواتي وأنا أقطع شارع القصر العيني متجهاً نحو مستشفى القصر العيني الفرنساوي حيث ستخرج جنازة الشهيد مصطفى أحمد حسن الذى أصيب بطلق نارى يوم 28 يناير،
في الواقع لم أكن أدري ما أسمه
لم أقابله يوما في حياتي
لاأعرف حتي شكله
ولعني لم اكن أتصور في يوم من الأيام أن تجمعني به اي علاقة
حتى تواجدنا في شارع احد كان أمر صعب
فهو من سكان الإسكندرية وأنا من سكان القاهرة
لاأعلم ما قصة مصطفى ولا كيف اصيب
ولكن حين إتصلت بي إحدى زميلاتي لحضور الجنازة والمشاركة في المسيرة بعدها تحمست للفكرة
ليست الجنازة الأولى التي أحضرها ولا هو أو إحتكاك بيني و بين الموت فلقد واجهته في أقرب الناس إلى قلبي
ولكن هذه المرة الأمر مختلف
فانا سأذهب لتشييع شهيد
موقف لم نعتاده كمصريين
لم نراه إلا في الأفلام القديمة لحرب أكتوبر أو في الأفلام التي كانت تصور مقاومة الإنجليز
تلك الجنازات الشعبية المهيبة التي يخرج فيها الشعب المصري بطوائفة لتشيع بطلاً جديداً من أبطاله يسطر سطرا جديداً بدمه في سطور تاريخ هذا الوطن
بدأت تلوح في الأفق الجموع وهي تحمل نعش "مصطفى"
وقتها كنت مقابلاً للجنازة لا خلفها
وبمجرد ان رايت النعش وجت هاتف بداخلي يقول
"إبتسم فأنت في حضرة شهيد"
لأول مرة أشعر أنني اتمنى أن أكون في مكان المتوفي الذي أشيعه
فهل هناك أجمل من دخول الجنة
وهل هناك أجمل أن تموت في سبيل هدف وقضية
والأجمل أن تحيي بموتك تلك القضية في قلوب الناس مرة أخرى
وما أسماها من قضية تلك التي مت في سبيلها يا مصطفى
إنها قضية وطن
جاوزني النعش وأنا أنظر إليه ثم بدأت بالسير خلفه
كنت أنظر إليه وتملأني التساؤلات
وتساءلت
ترى هل مر بما ممرت به لينزل من بيته في ذلك اليوم؟
هل كانت مشاعرنا واحده؟
هل كانت دوافعنا واحده؟
بم كان يهتف لحظة إصابته ؟
هل كان يسير وحيداً ؟أم خرج مع أصدقاءه ؟
أين أصيب؟(لم أمن أعلم وقتها أن مصطفى مات في الإسكندرية)
هل هنا في شارع القصر العيني حيث نسير بجثمانه الطيب
أم في ميدان التحرير
أو لعله أصيب بجواري ونحن نمر من ميدان الجلاء متجهين إلى كوبري قصر النيل في ذلك اليوم
وكانني أعيد نفس المشهد مرة أخرى
ولكنها لم تكن جنازة في ذلك اليوم
كانت ميلاد جديد
ميلاد لكل مشارك
الشعب المصري يعلن ميلاده
ليس الشعب المصري كله فقط
بل كل فرداً منفصلاً فيه يولد من جديد
يصحح أراءه
يعدل من إتجاهته
يغير من قناعاته

بدات أسرع في الخطى وأنا أكاد لا أصدق عيني
"معقول هو اللي قدامي ده"؟؟؟؟!!!!
نفس الشخص اللي وصلني لقمة الإحباط من يومين هو هو اللي وصل روحي المعنوية لأعلى حالاتها
إنه مديري الذي قابلته يوم 25يناير مساءً وتعامل مع الأمر بتهكم وسخرية
هو الأن يسير بجواري في شارع التحرير و نواجه سوياً قنابل الغاز
ليس هو وحده بجواري
فهاهو صديقي من أيام الجامعه
إيه ده ودول العيال بتوع النادي
وادي أنكل محمد جارنا
وبقيت صحابي في الشغل أهم
في اللحظة دي باللذات عرفت ان خلاص مصر قبل صلاة الجمعه النهارده مش هي مصر بعدها
ايه اللي هيحصل و هيحصل إزاي ورايحين على فين أنا مش عارف
وده كان نفس كلام مديري لما وقفت أتكلم معاه بعد ما جرينا من قنبلة دخان وقعت وسطنا
قال لي "المشكلة إني......"
قلتله "ايه مش عارف اللي بتعمله صحولا غلط؟"
قال لي "لأ المشكلة إني مش عارف نتيجة اللي بنعمله ده إيه؟"
"قلت له بس إنت مقتنع غننا لازم نعمله صح؟"
فأومأ برأسه بالموافقة القاطعه
وطلعنا نجري عشان كان في قنبلة دخان تانيه نازله علينا

مشفتش حد حواليا تاني بعد ما جرينا من القنبلة دي
صحابي منهم اللي كمل لقدام ومنهم اللي مبقاش قادر يواصل من كم الدخان الرهيب
كنت في الوقت ده في صفوف متأخرة شويه وكانت عملية إقتحام كوبري الجلاء وكوبري قصر النيل تجري على قدم وساق في الصفوف الأمامية
كنت قد بدأت أصل لمرحلة شديدة من التعب والإعياء وضيق التنفس من كثرة الدخان
فجلست على جانب الطريق أراقب المشهد واتحدث مع بعض من حولي
المشهد كان يبدو غريباً وغير مألوفاً
العدد كبيير قوي
والناس كتيره قوي
ومتفقين قوي
ومتقبلين أفكار بعض قوي قوي قوي
ليه وإزاي مش عارف
او في الواقع أنا عارف ليه .....بس مش عارف إزاي


"يبدو أن نظام حسني مبارك صنع مشكلة نفسية كبيرة عند كل رجالة مصر"
بدأت حديثي مبتسماً مع بعض الشباب اللي كانوا بيتناقشوا إذا كان المفروض نكمل للتحرير ولا نستنى عند ميدان الجلاء
المعادلة كانت صعبة بصراحه
أصلك لو حاولت تروح التحرير الإحتمال الأكبر إنك هتموت
ولو محاولتش تروح افحتمال الأكبر إنك مش راجل
ده كان رد واحد من الشباب 
ثم قام أكثرنا مصداقية و قال "انا ياجماعه شايف إن ميدان الجلاء للفرافير وميدان التحرير للرجالة فأنا بقول بما أننا متربين في المهندسين وعارفين إننا فرافير نسيب التحرير للرجالة بدل ما ندخل معاهم نلبخهم"
رد عليه أحد "الفرافير" مبرراً موقفه بلهجة الخبير العسكري" أنا شايف انها مش فارقه إحنا نستنى هنا في الجلاء وادينا برضه بنمنع انهم يعملوا كماشه على اللي رايحين التحرير فبنامن ضهرهم وفي نفس الوقت بنستقبل المصابين بتوعهم وكده"
كلامه كان بيحتوي على شئ من المنطقية عشان تريح ضمير "الرجالة" اللي واقفه
شعرت وقتها بحجم المسئولية الملقاة على عاتقي لمجرد انني "رجل"
"اتفضل .....خش التحرير.....مش عامللي فيها راجل؟؟!!"
وبدأت بداخلي موجه من الحقد تجاه كل بنت في مصر
لأن كان في ظلم شديد في المقارنه في اليوم ده
فالبنت اللي واقفه في ميدان الجلاء "تبقى بميت راجل"
والولد اللي واقف في نفس الميدان يبقى "مش راجل"
وفكرت ساعتها جدياً إني أقلب المظاهرة من إسقاط النظام للمطالبة بالمساواه -بإعطاء الرجل حق المكوث في ميدان الجلاء طبعاً-
بصراحه مستحملتش الوضع
قلت حتى لو مت مانا كده كده هموت...على الأقل هضمن بكده موته شريفه
رحت عند أقرب تليفون أرضي وكلمت إخواتي طمنتهم عليا
وتوكلت على الله
الموقف كان كالتالي
كوبري الجلاء يقف عنده 4 سيارات أمن مركزي محطمه ويقف على كل منها احد الشباب يصيح بالناس اللي في ميدان الجلاء "خشوا خشوا متخافوش"
وفي نفس الوقت ناس واقفه على الكوبري بتقول "محدش يروح التحرير ده ممكن يبقى كمين"
وطول الوقت ناس راجعه مصابه ومتشالين وبينزفوا
مشهد الدم والناس وهي متشاله وقفني
وفضلت وقت كتييييييير قوي
ادخل كوبري الجلاء وامشي لحد نصه وبعدين ألف وأرجع تاني
وأتكرر الموضوع ده أكتر من 10 مرات
ابتدي أتحرك ...أوصل لحد نص الكوبري .....وألف وأرجع تاني
ابتدي أتحرك ...أوصل لحد نص الكوبري .....وألف وأرجع تاني
موازانات وحسابات كتيره قوي بتظهر في دماغك وانت داخل تموت
مكنتش قلقان من إن حد يكون زعلان مني......لكن كنت قلقان لا يكون في حد ليه حق عندي
مكنتش خايف إني أموت وتنتهي حياتي في لحظة.....لكن كنت خايف لحسن أتصاب وأصبح عبء وهم على أسرتي وعلى البلد كلها
ولكن مشهد المصابين وهما متشالين واحد ورا التاني استبد بيا وبمشاعري قوي
وأنت مش أحسن من أي حد في دول
ولا حد منهم أحسن منك
وتجاوزت منتصف كوبري الجلاء وانا أكاد لا أرى من كثافة سحب الدخان
كنت ابحث بعيني عن أي شخص أعرفه عشان بس لو جرى لي حاجه يشيلني لأني كنت نازل اليوم ده بدون أي إثبات شخصية خوفاً من أنه يتقبض عليا وحد يؤذي أهلي أو إخواتي
للأسف مكنش في حد جنبي أعره أو جايز كان فيه وانا مشفتوش
بدأت الأصوات حواليا تختلف
الصوت مش صوت هتاف زي ما كان
الصوت بيتحول لصوت معركه و صراخ وأصوات سرينة الشرطه
وصلت إلى منتصف كوبري قصر النيل والمتظاهرين بيصللوا العصر
ياااه "ايوه أنا عاوز أموت الموته دي"
إرتفعت أصوات مشيعي جنازة مصطفى الصلاة ...الصلاة
لقد قرروا أن يصلوا عليه في ميدان التحرير
في الميدان الذي ضحى من أجله
وفي الميدان الذي مازالت تخرج منه الأصوات والهتافات تطالب بحقه
وقفت وأصطف الناس من حولي للصلاة
هل يحتاج الشهيد فعلاً لأن نصلي عيه وندعو له
أم أننا نصلي عليه لكي نحظى بهذا الشرف
 ونظرت أمامي على الأرض
في مثل هذا المكان
سقط شهيداً اخر
ليطهر بدمائه هذه الأرض
ودفع حياته ثمناً لحريتنا جميعاً
وياله من ثمن غال


انطلقت ووقفت وسط الناس وبدأت أصلي
في كلمة بيقولها دايماً الإمام قبل صلاة الجماعه
بيقول "صلوا صلاة مودع"
بيتهيألي دي كانت صلاة مودع بالنسبة ليا
بدأت الشرطه في فتح رشاشات المياه في إتجاه المصلين وهو المشهد الذي رأيناه جميعاً على شاشات التليفزيون فيما بعد
بصراحه كنت سعيد قوي وانا يصللي قدامهم
وهما بيحاولوا يفرقونا بمدافع الميه
الناس كان منظرها جميل قوي وهما بيدخلوا يصللوا بس عشان بترش علينا ميه
نوع من التحدي والإيمان الداخلي اللي ممكن يكون مش ظاهر في حياتنا وتعاملتنا اليومية مع بعض
لكنه كان واضح وضوح الشمس في اللحظة دي
المصريون يؤمنون بالله ويثقون به ولايخشون غيره
مش عارف صليت العصر ركعتين ولا أربعه ولا سته ب متأكد إنها نت صلاة مقبوله
بدأ الضرب يزيد والقنابل المسيلة للدموع تزيد أكتر وأكتر وبدأت أسمع صوت رصاص وأشوف ناس مصابه حواليا
انا مكنتش بشارك في مقاومة الشرطه
يمكن تستغربوا لو قلت لكم كنت خايف أمد إيدي على حد لحسن يكون مظلوم
مش مثالية والله ولا حاجه بس أنا كنت في لحظة نقية ومش عاوز اي حاجه تلوثها
وكان من أطرف المواقف اللي حصلت وسط الجو الصعب ده إني شفت الناس عماله تنط على المدرعات وهي بتهتف بكل صدق وإخلاص "سلمية ...سلمية"
تحس إنهم مش كانوا بيقولوا سلمية بمعنى إن الثورة سلمية ولكن بيوجهوا رسالة للشرطه "إحنا مش قولنا لكم سلمية ياولاد ال.....بتضربوا ليه بقى هه؟بتضربوا ليييه؟؟"
 ظللت أشارك باقي المتظاهرين في عمليات الكر والفر منتظراً تلك الرصاصة التي تسمى رصاصة الرحمة
صراحة لم يكن في ذهني أنني سأعبر للطرف التاني من لكوبري
انا يا هموت هنا يا هارجع تاني لو ربنا لسه كاتب لي عمر
وبدأت ألاحظ حاجه
الإصابات اللي حواليا مبقتش إصابات في الإيد أو في الرجل أو البطن
بدأت أشوف ناس بتمسك عينيها وهي بتنزف
معقول!!!!؟؟؟
معقول يكون النظام فعلاً هيدافع عن نفسه بالوحشية دي
معقول البلد هتقتل أنضف شبابها ورجالتها
هتصيبهم في عنيهم
هتخليهم عجزة طول عمرهم؟؟!!
إفتكرت إن ده نهاية المطاف لكني فوجئت بأن هناك ما هو أبشع
لقد سقط أمامي أول شهيد
وأنتبهت من ذكرياتيعلى صوت الهتافات وأهل مصطفى يحملونه إلى مثواه الأخير
"يا شهيد نام وإرتاح.....وإحنا نكمل الكفاح".......
"يتبع"
-------------------------------------------------------------------------------------------
إقرأ أيضاً يوميات المتظاهر الصغير الجزء السابع





هناك 6 تعليقات: